الإعلام في الحرب التجارية الأمريكية الصينية- تزييف الحقائق وتضليل الرأي العام

المؤلف: أحمد الجميعة09.22.2025
الإعلام في الحرب التجارية الأمريكية الصينية- تزييف الحقائق وتضليل الرأي العام

في صميم المجتمعات والمنظمات والدول، يبرز الإعلام كجزء لا يتجزأ من صراعات القوى المؤثرة، وهذه حقيقة راسخة لا تقبل الشك، وبناءً على ذلك، فإن الحياد التام ضرب من الخيال، إذ يتسم بالنسبية ويختلف من مجتمع إلى آخر، وذلك تبعًا للإطار الإعلامي الذي يوجه ممارساته وتوجهاته، ونتيجة لذلك، تتأثر قيم المصداقية، والدقة، والموضوعية، بفعل هذه الممارسات، والانحياز إلى أحد أطراف النزاع، وهو ما تغذيه الأيديولوجيات التي تستولي على زمام المبادرة في تضليل الحقائق وتحريفها وتزيينها، لا سيما عندما يتم تسخير التقنيات المعاصرة، وعلى رأسها الذكاء الاصطناعي، لتعميق أتون الصراع، وخلق جدلية معقدة في فرز وتفسير وتقييم المضامين المتحيزة التي تنتجها هذه التقنيات.

تجسد الحرب الاقتصادية الطاحنة بين الولايات المتحدة الأمريكية وجمهورية الصين الشعبية مثالًا صارخًا على التزييف الإعلامي العميق والخطير، فمنذ إعلان الولايات المتحدة عن الرسوم الجمركية، انتقل الصراع من مرحلة التخفي إلى العلن، وانخرط الإعلام كطرف فاعل في هذا النزاع المحتدم بين الجانبين، وأضحت القيم المهنية خاضعة للمصالح التي تغذيها أيديولوجيات كل طرف، وتشكل التصريحات، والبيانات، والتغريدات، والصور، ومقاطع الفيديو التي انتشرت خلال الأسابيع القليلة الماضية، شواهد دامغة تعكس الوضع الذي وصل إليه إعلام الدولتين، والذي تأثر بشكل حتمي بالتوجهات السياسية والاقتصادية السائدة.

من الواضح بجلاء أن الإعلام الصيني يتميز بقدر أكبر من الثبات والرسوخ في مواقفه، وتوجهاته، وسياساته تجاه الحرب الاقتصادية الدائرة رحاها اليوم، وذلك بالمقارنة مع الإعلام الأمريكي الذي يعاني من انقسام حاد بين الجمهوريين والديمقراطيين في توجهاتهم، وهو الأمر الذي دفع الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب إلى مواجهة تحديات جمة في تمرير رسائله داخل الولايات المتحدة قبل الوصول إلى دول العالم الأخرى.

علاوة على ذلك، بدأ الإعلام الصيني يركز بشكل متزايد على أدق التفاصيل الداخلية في الولايات المتحدة، وتعكس مضامينه الإعلامية صورًا ومقاطع فيديو تظهر صفوفًا طويلة من الأمريكيين وهم يصطفون أمام متاجر الهواتف الذكية، والصدمة التي تصيبهم جراء ارتفاع أسعار العلامات التجارية العالمية التي تتخذ من الصين مقرًا لها، وذلك على الرغم من أسعار التكلفة المحدودة، بالإضافة إلى تدفق المنتجات الاستهلاكية الصينية التي تغزو الأسواق الأمريكية، بما في ذلك قبعة الرئيس ترمب خلال حملته الانتخابية التي كانت تحمل بكل فخر علامة "صنع في الصين"، فضلًا عن الصناعات الضخمة مثل إعادة الصين لطائرات البوينج، إضافة إلى ما ينقله الإعلام الصيني -غير الرسمي- من تذمر واستياء رجال الأعمال الأمريكيين، وكبرى الشركات والمصانع من سياسات ترمب الاقتصادية، ومواقفه المتضاربة مع رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي، وصولًا إلى الارتفاع المتزايد في معدلات التضخم، والقائمة تطول، والأيام القادمة تحمل في طياتها المزيد من المفاجآت المذهلة.

اليوم، تشعر الإدارة الأمريكية بوطأة الضغوط الشعبية المتزايدة جراء قرارات ترمب، وبدأت قبل أيام قليلة في تدشين مرحلة جديدة من حربها ضد الصين، وهي ما يُعرف بـ "تفويج الصراع" إلى مواقع جغرافية أخرى بهدف تخفيف حدة الضغط وإشغال الصين بالمواقف الدولية تجاه تعاملاتها التجارية، وهو الأمر الذي دفع وزارة الخارجية الصينية قبل يومين إلى التحذير من مغبة اتخاذ إجراءات انتقامية ضد الدول التي تبرم اتفاقيات تجارية مع الولايات المتحدة على حساب مصالح الصين، وقد بدأت الصين بالفعل في فرض رسوم جمركية باهظة بنسبة 100% على الواردات الكندية من المنتجات الزراعية والغذائية، وذلك ردًا على الرسوم التي فرضتها كندا على السيارات الكهربائية ومنتجات الصلب والألمنيوم الصينية.

في المقابل، انصرف الإعلام الصيني عن التركيز على الداخل الأمريكي، وبدأ خلال اليومين الماضيين في نشر محتويات إعلامية تبرز مواقف الصين التجارية مع شركائها، وخاصة في منطقة الشرق الآسيوي، حيث أعلن وزير الخارجية الصيني خلال لقائه بنظيره الإندونيسي أول أمس، عن استعداد بلاده لاستيراد المزيد من السلع الإندونيسية، مؤكدًا أن بكين وجاكرتا تمثلان نموذجًا يحتذى به في الدفاع عن قيم العولمة الاقتصادية والتجارة الحرة.

تتسم الحرب التجارية بين أمريكا والصين بجذور عميقة وأبعاد واسعة النطاق، وسيبقى الإعلام طرفًا ثابتًا ومنحازًا لمواقف ومصالح بلاده، بعيدًا كل البعد عن التمسك بالقيم المهنية السامية، ويبدو أن هذه الحرب لا رجعة فيها حتى لو توصل الطرفان إلى اتفاق ما، وذلك لأن الثقة التي تمثل حجر الزاوية في التعاملات التجارية بين البلدين قد اهتزت بشدة، ووصل صدى ارتدادها إلى جميع أنحاء العالم.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة